فصل: (الانفطار: الآيات 1- 5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو البقاء العكبري:

سورة الانفطار:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
جواب {إذا علمت} و{ما غرك} استفهام لا غير، ولو كان تعجبا لقال ما أغرك.
و{عدلك} بالتشديد قوم خلقك، وبالتخفيف على هذا المعنى، ويجوز أن يكون معناه صرفك على الخلقة المكروهة.
قوله تعالى: {ما شاء} يجوز أن تكون {ما} زائدة، وأن تكون شرطية، وعلى الأمرين الجملة نعت لصورة، والعائد محذوف: أي ركبك عليها، وفي تتعلق بركبك وقيل لا موضع للجملة لأن في تتعلق بأحد الفعلين، فالجميع كلام واحد، وإنما تقدم الإستفهام عن ما هو حقه، و{كراما} نعت، و{يعلمون} كذلك، ويجوز أن يكون حالا: أي يكتبون عالمين.
قوله تعالى: {يصلونها} يجوز أن يكون حالا من الضمير في الخبر، وأن يكون نعتا لجحيم.
قوله تعالى: {يوم لا تملك} يقرأ بالرفع: أي هو يوم، وبالنصب على تقدير أعنى يوم، وقيل التقدير: يجازون يوم، ودل عليه ذكر الدين، وقيل حقه الرفع،ولكن فتح على حكم الظرف كقوله تعالى: {ومنا دون ذلك} وعند الكوفيين هو مبنى على الفتح، والله أعلم. اهـ.

.قال حميدان دعاس:

سورة الانفطار:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.[الانفطار: الآيات 1- 5]

{إِذَا السَّماءُ انفطرت (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انتثرت (2) وَإِذَا الْبِحارُ فجرت (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأخرت (5)}
سبق إعراب مثل هذه الآيات في سورة التكوير.

.[الانفطار: آية 6]

{يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)}.
{يا} حرف نداء و{أَيُّهَا} منادى مبني على الضم و(ها) حرف تنبيه و{الْإِنْسانُ} بدل و{ما} اسم استفهام مبتدأ و{غَرَّكَ} ماض ومفعوله والفاعل مستتر والجملة خبر ما و{بِرَبِّكَ} متعلقان بالفعل و{الْكَرِيمِ} صفة.

.[الانفطار: آية 7]

{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فعدلك (7)}.
{الَّذِي} صفة ثانية لربك و{خَلَقَكَ} ماض ومفعوله والجملة صلة و{فَسَوَّاكَ} معطوف على {خلقك} و{فعدلك} معطوف أيضا.

.[الانفطار: آية 8]

{فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8)}.
{فِي أَيِّ} متعلقان بـ: {ركبك} و{صُورَةٍ} مضاف إليه و{ما} زائدة {شاءَ} ماض فاعله مستتر والجملة صفة {صورة} و{رَكَّبَكَ} ماض ومفعوله والفاعل مستتر والجملة حال.

.[الانفطار: آية 9]

{كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)}.
{كلا} حرف ردع وزجر و{بَلْ} حرف إضراب انتقالي {تُكَذِّبُونَ} مضارع مرفوع والواو فاعله و{بِالدِّينِ} متعلقان بالفعل، والجملة مستأنفة لا محل لها.

.[الانفطار: آية 10]

{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10)}.
{وَإِنَّ} الواو حالية وإن حرف مشبه بالفعل و{عَلَيْكُمْ} متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم {لَحافِظِينَ} اللام المزحلقة و(حافظين) اسم إن المؤخر والجملة حال.

.[الانفطار: آية 11]

{كِراماً كاتِبِينَ (11)}.
صفتان لـ: (حافظين).

.[الانفطار: آية 12]

{يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12)}.
{يَعْلَمُونَ} مضارع وفاعله و{ما} مفعول به والجملة حال و{تَفْعَلُونَ} مضارع وفاعله والجملة صلة.

.[الانفطار: آية 13]

{إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)}.
{إِنَّ الْأَبْرارَ} إن واسمها {لَفِي} اللام المزحلقة و(في نَعِيمٍ) متعلقان بمحذوف خبر إن والجملة مستأنفة لا محل لها.

.[الانفطار: آية 14]

{وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)}.
معطوفة على ما قبلها والإعراب واضح.

.[الانفطار: آية 15]

{يَصْلَوْنَها يوم الدِّينِ (15)}.
{يَصْلَوْنَها} مضارع وفاعله ومفعوله والجملة حال و{يوم الدِّينِ} ظرف زمان مضاف إلى {الدين}.

.[الانفطار: آية 16]

{وَما هُمْ عَنْها بِغائبين (16)}.
{وَما} الواو حالية و{ما} حجازية تعمل عمل ليس و{هُمْ} اسمها و{عَنْها} متعلقان بما بعدها و{بِغائبين} مجرور لفظا منصوب محلا خبر ما والجملة حال.

.[الانفطار: آية 17]

{وَما أَدْراكَ ما يوم الدِّينِ (17)}.
{وَما} الواو حرف استئناف و{ما} اسم استفهام مبتدأ {أَدْراكَ} ماض ومفعوله والفاعل مستتر والجملة الفعلية خبر ما والجملة الاسمية مستأنفة و{ما يوم} مبتدأ وخبره و{الدِّينِ} مضاف إليه والجملة سدت مسد مفعول {أدراك} الثاني.

.[الانفطار: آية 18]

{ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يوم الدِّينِ (18)}.
معطوفة على ما قبلها والإعراب واحد.

.[الانفطار: آية 19]

{يوم لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يومئِذٍ لِلَّهِ (19)}.
{يوم} مفعول به لفعل محذوف و{لا} نافية {تَمْلِكُ نَفْسٌ} مضارع وفاعله و{لِنَفْسٍ} متعلقان بالفعل و{شَيْئاً} مفعول به والجملة في محل جر بالإضافة. {وَالْأَمْرُ} الواو حرف استئناف و{الْأَمْرُ} مبتدأ و{يومئِذٍ} ظرف زمان مضاف إلى مثله متعلق بمحذوف خبر المبتدأ و{لِلَّهِ} متعلقان بالخبر المحذوف والجملة الاسمية مستأنفة. اهـ.

.فصل في تخريج الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:

قال الزيلعي:
سورة الانفطار فِيهَا حديثان:
1463 – قوله:
عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه انه صَاح بِغُلَام لَهُ مَرَّات فَلم يُلَبِّهِ فَنظر فَإِذا هُوَ بِالْبَابِ فَقال لَهُ مَالك لَا تُجِيبنِي فَقال لِثِقَتِي بِحِلْمِك وَأَمني من عُقُوبَتك فَاسْتحْسن جَوَابه وَأعْتقهُ.
1464- الحديث الأول:
قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلمَ لما تَلا قوله تعالى: {مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم} قال: «غره جَهله».
قلت رَوَاهُ الثَّعْلَبِيّ أخبرنَا أَبُو عبد الله بن فَنْجَوَيْهِ واسْمه الْحُسَيْن بن مُحَمَّد ثَنَا أَبُو على بن حَنش الْمقري ثَنَا أَبُو الْقَاسِم بن الْفضل الْمقري ثَنَا على بن الْحُسَيْن الْمقدمِي وعلى بن هَاشم قالا ثَنَا كثير بن هِشَام ثَنَا جَعْفَر بن برْقَان ثَنَا صَالح ابْن مِسْمَار قال بَلغنِي أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلمَ تَلا هَذِه الْآيَة {يأيها الْإِنْسَان مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم} قال: «غره جَهله».
وَعَن الثَّعْلَبِيّ رَوَاهُ الواحدي فِي تَفْسِيره الْوَسِيط بِسَنَدِهِ وَمَتنه.
وَرَوَاهُ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام فِي كتاب فَضَائِل القرآن حَدثنَا كثير ابْن هِشَام وَذكره سَوَاء إِلَّا أَنه قال: «غره حلمه» وَالنُّسْخَة صَحِيحَة.
1465- الحديث الثَّانِي:
عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلمَ أنه قال: «من قرأ {إِذا السَّمَاء انفطرت} كتب الله لَهُ بِعَدَد كل قَطْرَة من السَّمَاء حَسَنَة وَبِعَدَد كل قبر حَسَنَة».
قلت رَوَاهُ الثَّعْلَبِيّ من حديث سَلام بن سليم ثَنَا هَارُون بن كثير عَن زيد بن اسْلَمْ عَن أَبِيه عَن أبي أمامة عَن أبي بن كَعْب قال قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلمَ... فَذكره وَزَاد «وَأصْلح لَهُ شَأْنه يوم الْقِيَامَة» انتهى.
وَرَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره بسنديه فِي آل عمرَان.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الواحدي فِي الْوَسِيط بِسَنَدِهِ فِي يُونُس. اهـ.

.من مجازات القرآن في السورة الكريمة:

قال ابن المثنى:
سورة إذا السّماء انفطرت 82:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{بُعْثِرَتْ} (4) أثيرت، يقول الرجل للرجل: بعثرت حوضى، جعلت أسفله أعلاه..
{ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يوم الدِّينِ} (18) توعّد. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة الانفطار:
في أثناء الحياة الدنيا، كان يقال للإنسان: انظر فوقك {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور}؟ لا فتوق ولا شقوق، السماء محبوكة الأطراف! والكواكب تتهادى لا عطل ولا توقف. لكن عند قيام الساعة يتغير كل شيء: {إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت}. الشقوق ملأت الآفاق. والكواكب انفرط عقدها فلا يمسكها نظام، والبحار طغت على الشواطئ، وأهل القبور يستعدون للخروج وهم شاعرون بالحرج والحيرة! ونسمع هنا معاتبة مؤسفة {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك}. ما فعلت في أمس الدابر؟ وما قدمت لمستقبلك الخالد؟ لقد كانت وصايا الحق أهون شيء على الإنسان! كان المرء يمرق إلى أهوائه كالسهم، فإذا كلف بجهاد أو صلاة تقاعس واسترخى! إن الدار الآخرة ستكون مفاجأة كئيبة لأغلب الناس {كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون} إن الملائكة الحفظة يثبتون في سجلاتهم كل شيء حتى يواجه الإنسان بما قدم وأخر.. دون زيادة أو نقص، ثم يذهب الخلائق إلى مستقرهم العتيد {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم}. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة الانفطار:
أقول: قد عرف مما ذكرت وجه وضعها هنا، مع زيادة تآخيهما في المقطع. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 8):

قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انفطرت (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتثرت (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فجرت (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأخرت (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فعدلك (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
(بسم الله) الذي له الجلال كما أن له الجمال (الرحمن) الذي عم بالرحمة ليشكر فغر ذلك أهل الضلال (الرحيم) الذي خص من أراد بالتوفيق لما يرضى من الخصال.
ولما ختمت التكوير بأنه سبحانه لا يخرج عن مشيئته وأنه موجد الخلق ومدبرهم، وكان من الناس من يعتقد أن هذا العالم هكذا بهذا الوصف لا آخر له (أرحام تدفع وأرض تبلع ومن مات فات وصار إلى الرفات ولا عود بعد الفوات) افتتح الله سبحانه هذه بما يكون مقدمة لمقصود التي قبلها من أنه لابد من نقضه لهذا العالم وإخرابه ليحاسب الناس فيجزي كلا منهم من المحسن والمسيء بما عمل فقال: {إذا السماء} أي على شدة إحكامها واتساقها وانتظامها {انفطرت} أي انشقت شقوقاً أفهم سياق التهويل أنه صار لبابها أطراف كثيرة فزال ما كان لها من الكرية الجامعة للهواء الذي الناس فيه كالسمك في الماء، فكما أن الماء إذا انكشف عن الحيوانات البحرية هلكت، كذلك يكون الهواء مع الحيوانات البرية، فلا تكون حياة إلا ببعث جديد ونقل عن هذه الأسباب، ليكون الحساب بالثواب والعقاب.
ولما كان يلزم من انفطارها وهيها وعدم إمساكها لما أثبت بها ليكون ذلك أشد تخويفاً لمن تحتها بأنهم يترقبون كل وقت سقوطها أو سقوط طائفة منها فوقهم فيكونون بحيث لا يقر لهم قرار، قال: {وإذا الكواكب} أي النجوم الصغار والكبار كلها الغراء الزاهرة المتوقدة توقد النار المرصعة ترصيع المسامير في الأشياء المتماسكة التي دبر الله في دار الأسباب بها الفصول الأربعة والليل والنهار، وغير ذلك من المقاصد الكبار، وكانت محفوظة بانتظام السماء {انتثرت} أي تساقطت متفرقة كما يتساقط الدر من السلك إذا انقطع تساقطاً كأنه لسرعته لا يحتاج إلى فعل فاعل لقوة تداعيه إلى التساقط.
ولما كان إخباره بما دل على وهي السماء مشعراً بوهي الأرض لأنها أتقن منها وأشرف إذ هي للأرض بمنزلة الذكر للأنثى، وكان الانفعال ربما أوهم أن ذلك يكون بغير فاعل، صرح بوهي الأرض معبراً بالبناء للمفعول دلالة على أن الكل بفعله، وأن ذلك عليه يسير، فقال مخبراً بانفطار الأراضي أيضاً ليجمع بين التخويف بالمطل والترويع بالمقل: {وإذا البحار} المتفرقة في الأرض وهي ضابطة لها أتم ضبط لنفع العباد على كثرتها {فجرت} أي تفجيراً كثيراً بزوال ما بينها من البرازخ الحائلة، وقال الربيع: بفيضها وخروج مائها عن حدوده فاختلط بعضها ببعض من ملحها وعذبها فصارت بحراً واحدًّا، فصارت الأرض كلها ماء ولا سماء ولا أرض فأين المفر.
ولما كان ذلك مقتضياً لغمر القبور فأوهم أن أهلها لا يقومون كما كان العرب يعتقدون أن من مات فات، قال دافعاً لذلك على نمط كلام القادرين إشارة إلى سهولة ذلك عليه: {وإذا القبور} أي مع ذلك كله {بعثرت} أي نبش ترابها على أسهل وجه عن أهلها فقاموا أحياء كما كانوا، فرأوا ما أفظعهم وهالهم وروّعهم.
ولما كانت هذه الشروط كلها التي جعلت أشراطاً على الساعة موجبة لعلوم دقيقة، وتكشف كل واحدة منها عن أمور عجيبة، وكانت كلها دالة على الانتقال من هذه الدار إلى دار أخرى لخراب هذه الدار، ناسب أن يجيب (إذا) بقوله: {علمت نفس} أي جميع النفوس بالإنباء بالحساب وبما يجعل لها سبحانه بقوة التركيب من ملكة للاستحضار كما قال تعالى: {فكشفنا عنك غطاءك} والدال على إرادة العموم التعبير بالتنكير في سياق التخويف والتحذير مع العلم بأن النفوس كلها في علم مثل هذا وجهله على حد سواء، فمهما ثبت للبعث ثبت للكل، ولعله نكر إشارة إلى أنه ينبغي لمن وهبه الله عقلاً أن يجوّز أنه هو المراد فيخاف: {ما قدمت} أي من عمل {وأخرت} أي جميع ما عملت من خير أو شر أو غيرهما، أو ما قدمت قبل الموت وما أخرت من سنة تبقى بعده.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: هذه السورة كأنها من تمام سورة التكوير لاتحاد القصد فاتصالها بها واضح وقد مضى نظير هذا- انتهى.
ولما كان ذلك خالعاً للقلوب، وكان الإنسان إذا اعتقد البعث قد يقول تهاوناً ببعض المعاصي: المرجع إلى كريم ولا يفعل بي إلا خيراً، أنتج قوله منادياً بأداة البعد لأن أكثر الخلق مع ذلك معرض، منكراً سبحانه وتعالى على من يقول هذا اغتراراً بخدع الشيطان إنكاراً يهد الأركان: {يا أيها الإنسان} أي البشر الآنس بنفسه الناسي لما يعنيه {ما غرك} أي أدخلك في الغرة، وهي أن ترى فعلك القبيح حسناً أو ترى أنه يعفى عنك لا محالة، وذلك بمعنى قراءة سعيد بن جبير والأعمش: أغرك- بهمزة الإنكار، وتزيد المشهورة معنى التعجب {بربك} أي المحسن إليك الذي أنساك إحسانه ما خلقت له من خلاص نفسك بعمل ما شرعه لك.
ولما كان التعبير بالرب مع دلالته على الإحسان يدل على الانتقام عند الإمعان في الإجرام لأن ذلك شأن المربي، فكان ذلك مانعاً من الاغترار لمن تأمل، أتبعه ما هو كذلك أيضاً ظاهره لطف وباطنه جبروت وقهر، فقال للمبالغة في المنع عن الاغترار، {الكريم} أي الذي له الكمال كله المقتضي لئلا يهمل الظالم بل يمهله، ولا يسوي بين المحسن والمسيء والموالي والمعادي والمطيع والعاصي، المقتضي لأن يبالغ في التقرب إليه بالطاعة شكراً له، وأن لا يعرض أحد عنه لأن بيده كل شيء ولا شيء بيد غيره، فيجب أن يخشى شدة بطشه لأنه كذلك يكون المتصف بالكرم لا يكون إلا عزيزاً، فإنه يكون شديد الحلم عظيم السطوة عند انتهاك حرمته بعد ذلك الحلم فإنه يجد أعواناً كثيرة على مراده، ولا يجد المعاقب عذراً في تقصيره بخلاف اللئيم فإنه لا يجد أعواناً فلا يشتد أخذه، فصار الإنكار بواسطة هذين الوصفين أشد وأغلظ من هذه الجهة، ومن جهة أنه كان ينبغي أن يستحيي من المحسن الذي لا تكدير في إحسانه بوجه، فلا يعصى له أمر ولا يفرط له في حق، ومع ذلك ففي ذكر هذين الوصفين تلقين الحجة، قال أبو بكر الوراق: لو سألني لقلت: غرني كرم الكريم وحلمه، وقال على رضي الله عنه: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه، وقال الإمام الغزالي في شرحه للأسماء: هو الذي إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجا، ولا يبالي لمن أعطى ولا كم أعطى، وإذا رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى، وإذا جفى عاتب وما استقصى، ولا يضيع من لاذ به وإليه التجأ، ويغنيه عن الوسائل والشفعاء.
ولما ذكر هذين الوصفين الدالين على الكمالين، بالجلال، دل عليهما تقريراً لهما بإفاضة الجود في التربية بوصف الجمال بالإكرام لئلا يعتقد الإنسان بما له من الطغيان أنه حر مالك لنفسه يفعل ما يشاء فقال: {الذي خلقك} أي أوجدك من العدم مهيئاً لتقدير الأعضاء {فسوّاك} عقب تلك الأطوار بتصوير الأعضاء والمنافع بالفعل {فعدلك} أي جعل كل شيء من ذلك سليماً مودعاً فيه قوة المنافع التي خلقه الله لها، وعدل المزاج حتى قبل الصورة، والتعديل جعل البنية متناسبة الخلقة، وكذا العدل في قراءة الكوفيين بالتخفيف أي فأمالك عن تشويه الخلقة وتقبيح الصورة، وجعلك معتدلاً في صورتك، وكل هذا يقتضي غاية الشكر والخوف منه إن عصى، لأنه كما قدر على التسوية يقدر على التشويه وغيره من العذاب.
ولما أضاء بهذا إضاءة الشمس أنه عظيم القدرة على كل ما يريد، أنتج قوله معلقاً بـ: (ركب): {في أيّ صورة} من الصور التي تعرفها والتي لا تعرفها من الدواب والطيور وغير ذلك من الحيوان، ولما كان المراد تقرير المعنى غاية التقرير، أثبت النافي في سياق الإثبات لينتفي ضد ما أثبته الكلام فيصير ثبات المعنى على غاية من القوة التي لا مزيد عليها، فقال: {ما شاء ركبك} أي ألف تركيب أعضائك وجمع الروح إلى البدن، روى الطبراني في معاجمه الثلاثة برجال ثقات عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله جل اسمه أن يخلق النسمة فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق وعصب منها، فلما كان اليوم السابع أحضر الله له كل عرق بينه وبين آدم، ثم قرأ {في أي صورة ما شاء ركبك} [الانفطار: 8]» فتحرر بهذا الإنسان رقيق رقاً لازماً، ومن خلع ربقة ذلك الرق اللازم وكل إلى نفسه فهلك. اهـ.